سندي وظهري وعكازي
هالة الدسوقي
لعل البعض يعتقد أن مع كبر الأم والأب يصبحون عبئا على الأبناء، فقد قال لي أحدهم يوما : “كفاية عليهم كده !” وتعجبت لقوله كثير العجب .. فمن هؤلاء الذين تتحدث عنهم ؟! فأنت ثمرتهم التي سوف يبدأون للتو في حصاد طرحها ..
كانت وجهة نظره .. أنه له حياة يستحق أن يعيشها بعيدا عنهم (والده ووالدته)، فهو يريد أن يستقل بها دونما وجودهم !!.. وقتها صدمت من رأيه هذا .. فكيف ذلك وقد جاء دورك لتؤنسهم كما آنسوك طيلة حياتك .. حان دورك لترعاهم وتأخذ بيدهم .. كما ربوك سابقا وأخذوا بيدك ورعوك وأمضوا حياتهم كافة لك دونما ضجر أو إمتعاض.
وأري أن احتياجنا للوالدين في كبرهم أشد وأقوى من صغرنا ..وأشد وأقوى من احتياجهم لنا، فهم رغم تقدمهم في العمر، إلا أنهم هم من يكونون في بداية الصفوف التي تقف في ظهورنا .. وإن جار علينا البشر ..وفرغت الصفوف من وراءنا .. فننظر حائرين متعجبين .. فلا نجد سواهم خلفنا.
وصور احتياجنا لهم عدة وكثيرة ، فرغم كبرهم ومرضهم مازالوا يقومون بخدمتنا .. وواحة راحتنا نجدها عن عتبة بيتهم .. فكما كنا صغارا نجد لديهم ما يشبع بطوننا .. ويطمئن خوفنا .. ويشد من أزرنا.. يشاركونا الآن في تربية أودلانا وحمل الكثير من مسئولياتنا .. والقيام بالعديد من واجباتنا.. ويعيدوا تاريخ رعايتنا وذلك مع أحفادهم الذين هم في المقام الأول أبناءنا .
وإن أدارت لنا الدنيا ظهرا.. وأغمضت عنا عينا .. فسوف نجد أنفسنا في أعينهم .. ومتربعين في قلوبهم .. وإن ضعفت صحتهم..وضاقت ذات يدهم .. ووهنت قوتهم .. فدعواتهم سوف ترسم لنا طريقنا دون عناء وترفع بنا إلى أعلى ما أنجزناه.
وأذكر قصة إحدى السيدات مع حماتها القعيدة، فكانت تلك السيدة لا تطيق حماتها وتكثر من الضجر بها .. وتتمنى كل لحظة موتها وفراغ بيتها من وجودها .. وحينما جاء الأجل واختفت عن عينها .. وجدت أن خير بيتها قد اختفى وراءها وكأنه لحق بها .. فسعة الرزق لم يكن إلا باحثا عن تلك العجوز، والكل ينعم فيه بسببها، وحينما رحلت رحل وراءها، اكتشفت هي ذلك وندمت في وقت لا ينفع فيه الندم.
ولعل الأم هي الأكثر حبا وعطفا على أبناءها وأحفادها ..ومهما تقدموا في السن فهم مازالوا في عينها صغار، فهي لا تعترف بسنهم وتظل تخاف عليهم وتنصحهم وتوجههم.
وصدقا لا أرى من هو أكثر حبا لي وعطفا علي .. من تلك التي حملتني وتحملتني في بطنها تسعه أشهر .. وقاست من أجلي قبل ان أتي إلى هذه الدنيا ومن بعد أن جئت .. وحتى الآن فهي تضحي من أجلي .. ومن بعدي أولادي.
ولأمي مواقف لن أنساها ما حييت .. ولم يكن لها سواها .. فهي كانت وما زالت وسوف تظل نورا يشع لي في الظلام .. ومرشدا لي وسط صحارى الحياة.. وعن تجربة حاستها السادسة تبهرني .. فبعين الأم ترى ما لا أراه ..وتحذرني مما تراه خطرا وأراه خيرا.. وكثيرا ما صدق حدسها .. وخاب ظننا ..
وقد مررت بتجربة عصيبة مؤخرا.. فوجدتها تواجهها قبلي .. وتحارب فيها من أجلي .. وتتصدى بعنف لمن أراد هدمي .. وهنا إنغمست روحها في روحي .. واتحدت أعصابنا .. فعشنا الصعوبة في روح واحدة ..
ولكن انفعالاتها فاقت انفعالاتي .. وانصهرت تلك الروح الطاهرة الطيبة .. وسرى انصهارها لأوصالها .. وتحول حزنها علي ومن أجلي إلى معول يقوض صحتها ويفت عظامها .. لم أكن أتمنى أن يصل بها الأمر إلى تلك الحالة .. ولكن هذا هو حال الأم التي على شاكلة أمي .. فهي إمرأة نادرة نقية محبة لأولادها لدرجة من الحب تصبح أحيانا خطرا على صحتها ..
ولا أملك سوى الاعتذار ..
أمي .. أعتذر لك عن كل ألم سببته لك دون قصد ..أو فرضته علينا الظروف ..وكل قلق عايشته بسببي ..وكل حريقة أعصاب نالتك لجور بعض البشر علي ..سامحيني .. يا ظهري وعكازي وسندي في تلك الحياة … فأنا لا أحيى سوى لأنك بهذه الحياة.
hala2662007@gmail.com