سيد الأبنودى يكتب: العدالة المقلوبة.. عندما يصير الجاني ضحية

في عالم مليء بالتفاعلات الإنسانية المعقدة، حيث تتداخل الأحداث والمواقف بشكل يصعب معه فصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود، نجد أنفسنا أحيانًا أمام سيناريوهات يتحول فيها الجاني إلى ضحية، والضحية إلى جانٍ، على الأقل في السرديات التي يتم تداولها، هذا التحول لا يعكس فقط البراعة في التلاعب بالحقائق، وإنما يسلط الضوء أيضًا على الديناميكيات النفسية المعقدة التي تحكم تصرفاتنا وتفاعلاتنا مع الآخرين.

عندما يصير الجاني ضحية

يبدأ كل شيء بالإنكار، الأداة الأولى التي يلجأ إليها الجاني للهروب من مواجهة فعلته، “أنا لم أفعل شيئًا!”، جملة قد تبدو بسيطة، لكنها في الواقع تحمل في طياتها إنكارًا للذنب وتجنبًا للمسؤولية، هذا الإنكار ليس فقط أمام الآخرين، بل قد يصل إلى حد إقناع الذات ببراءتها من أي تهمة.

الخطوة التالية في هذه المعادلة المعوجة هي التلاعب بالأدوار، حيث يتقن الجاني فن إعادة صياغة القصة بطريقة تظهره كمتضرر من الموقف، مستغلًا أي ثغرة أو ضعف في سرد الطرف الآخر، يتحول الجاني هنا إلى “ضحية” ببراعة، مستخدمًا التعاطف كسلاح لتحويل الأنظار عن أفعاله.

كما ينسج العنكبوت شبكته بدقة لاصطياد فرائسه، يبرع الجاني في خداع الآخرين، مستغلاً عواطفهم الفياضة كورقة رابحة في لعبته الماكرة، يلفق قصصاً مؤلمة، مدعياً أنه ضحية لأذى نفسي أو ضرر معنوي أو مادي، في حين يختبئ خلف قناع البراءة، حيث تتأثر القلوب الطيبة بسهولة بتلك الحكايات المصطنعة، متعاطفة معه دون إدراك لحقيقة الأمر.

يسقط المتعاطفون، كأوراق الخريف الهشة، ضحايا لألاعيبه، مؤيدين لقضيته المزعومة بكل سذاجة، ودون قصد، قد يجدون أنفسهم شركاء في جريمة ضد الأبرياء، متورطين في دائرة الظلم بناءً على إيمانهم الأعمى بالأكاذيب التي تم تلقينها لهم. وبهذا، تتكشف مأساة الإنسانية حيث يتحول الخير إلى أداة في يد الخبث، في مسرحية حياتنا المعقدة، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والخداع.

ولكن، ما الذي يدفع الجاني للإيذاء أصلاً؟ في كثير من الأحيان، يكون الأذى محاولة لتعويض نقص داخلي، سواء كان ذلك نقصًا عاطفيًا، نفسيًا، أو حتى اجتماعيًا، الجاني، الذي يحول نفسه إلى ضحية، قد يكون في الأصل ضحية لألم داخلي عميق، يحاول ملء فراغه بإلقاء الألم على الآخرين.

أمام هذه المعادلة المعوجة، يصبح الوعي والتمييز أمرًا ضروريًا، يجب على المرء أن يتعلم كيف يفرق بين الحقيقة والتلاعب، وأن يطور قدرته على رؤية ما وراء الأقنعة، فهم الدوافع الحقيقية وراء تصرفات الأشخاص يمكن أن يكشف الكثير عما يبدو معقدًا ومربكًا في العلاقات الإنسانية.

وهنا يحترف الجاني دور الضحية، يتوارى العدل خلف ستار الأوهام، ويبقى السؤال العالق: إلى متى يستمر القلب الطيب في أن يكون أداة لأولئك الذين يتلاعبون بالحقائق كما يشاؤون، ضاربين عرض الحائط بكل ما هو أصيل ونبيل؟

وكما نرى في التعاملات اليومية، يمكن للكلمات والادعاءات أن تحمل في طياتها آثاراً بعيدة المدى، لا سيما عندما يتم استغلال العواطف الإنسانية لأغراض خبيثة، يستخدم الجاني في كثير من الأحيان الخداع والمكر، مدعياً أنه ضحية للظروف، في حين أن هدفه الحقيقي هو الإيقاع بالآخرين في شركه، يقع المتعاطفون في فخ التعاطف دون التمحيص والتدقيق في الحقائق، مما قد يؤدي بهم إلى دعم قضية زائفة أو حتى المشاركة في ظلم آخرين دون قصد.

ولنختم  بالآية الكريمة من سورة الإسراء التي تحث على العدل والإنصاف: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” (الإسراء: 36)، وتذكرنا هذه الآية بأهمية استخدام الحواس والقلب في البحث عن الحقيقة، وأننا مسؤولون أمام الله عز وجل عن كل ما نسمع ونرى ونشعر به، مما يدعونا إلى التأني والحرص في تقبل المعلومات والأخبار، والتمعن في العواقب قبل اتخاذ أى قرار.