سيد الأبنودى يكتب: حين يتحدث الخائن عن الوفاء
تخيّل نفسك وسط مشهدٍ سريالي، حيث يعتلي الخائن منصةً عالية، يخطب ببلاغة رائعة عن الوفاء، وفي عينيه بريق يخفي مكرًا عميقًا، بجواره، يقف لصٌ يلقي مواعظ عن الأمانة، وكأن يديه لم تتلوثا قط بما ليس له، وفي الخلف، يتعالى صراخ ظالم يهدد بالدعاء على معارضيه، متجاهلاً صرخات المظلومين التي تلاحق ضميره.
هذه المفارقات ليست مجرد لحظات نادرة، بل هي جزء لا يتجزأ من مسرح الحياة الذي نعيشه، حيث تتقاطع الأدوار وتتبدل الأقنعة بلا توقف.
ذلك الخائن، الذي كان يومًا ما صديقًا مخلصًا، صار اليوم يتفنن في الحديث عن الوفاء. يروي بإسهاب قصص الولاء والإخلاص، مما يثير الحيرة في نفوسنا ونحن نكابد للربط بين أقواله وأفعاله.
أي جسارة تلك التي تسمح له بذلك، وهو الذي لطخ تاريخه بطعنات الغدر لأولئك الذين وثقوا به؟ ربما يسعى إلى تطهير يديه من دماء الخيانة بكلمات تزخر بالنفاق، أو عله يحاول إقناع نفسه، قبلنا، بأن ذلك الغدر لم يكن سوى خطأ مؤقت في مسار الوفاء، يتظاهر بالإخلاص لزميله في العمل، يغتنم فرصة الثقة ليطعنه ويسلب منه مكانه، أو يرقى ليصبح رئيسه. وعندما ينال مبتغاه، يسرع إلى ارتداء قناع الأمانة والطيبة، نافيًا أي تهمة قد تلوث سمعته.
على الجانب الآخر من هذا المسرح المتناقض، يظهر اللص الذي نهب أموال الناس واستأثر بممتلكاتهم، يقف بكل ثقة يشرح مبادئ الأمانة، متحدثًا بلسان حلو عن أهمية النزاهة وأسس المجتمع الصالح، يوهم المستمعين بأن الأمانة هي الفضيلة العليا التي ينبغي على الجميع اعتناقها، بينما يخفي وراء كلماته وجهًا ملطخًا بالخديعة، كيف يمكن لعقولنا استيعاب هذا التناقض الصارخ؟ ربما يسعى هو الآخر لصنع قناع جديد يخفي به حقيقته السوداء، أو يحاول إعادة ترتيب أوراقه في عالم يسوده التظاهر.
وفي زاوية مظلمة، يبرز الظالم الذي قهر الناس وأذلهم، يرفع يديه إلى السماء مهددًا بالدعاء على من يعترض طريقه، يتحدث عن القوة الإلهية وعدالتها، وكأنه لم يكن يومًا سببًا في ظلم فادح، يدعو إلى العدالة وهو من خنقها بيديه، متغافلاً أن دعاء المظلوم هو السلاح الذي لا ينبو، ربما يحاول هذا الظالم أن يعيد صياغة دوره في هذا العالم، غير مدرك أن دوامة الظلم التي أطلقها ستعود لتطاله.
هذه المفارقات تدفعنا للنظر في مرآة تعكس واقعنا، في عالم تتداخل فيه الأدوار وتتشابك الأقنعة، إنها تحثنا على التأمل والتفكير في كيفية تعاملنا مع هذه التحديات، وكيف نفرّق بين القول والفعل، وبين الظاهر والباطن.
يجب أن نتعلم النظر لما وراء الكلمات، وأن ندرك أن الأفعال هي الانعكاس الحقيقي لنوايا الناس وأخلاقهم، في هذا العالم المعقد، علينا أن نكون حذرين في حكمنا، وأن نبحث دومًا عن الحقيقة الخفية وراء الواجهات.
إنها دعوة للوعي والتبصر، وتذكير بأن القيم الحقيقية ليست مجرد أقوال نرددها، بل هي أفعال نحيا بها، وفي نهاية الأمر، تظل الأمانة والوفاء والعدل هي الركائز التي يجب أن نتمسك بها، لنثبت بشريتنا الحقيقية في عالم يفيض بالتناقضات والأقنعة.