كنوز معطلة تحت رحمة الإدارة القانونية بوزارة البترول.. مصر تدفع الثمن
” اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم “، بهذه الكلمات نطق نبي الله يوسف عليه السلام، واضعًا نموذجًا خالدًا للإدارة الرشيدة والكفاءة في استثمار الموارد.
كنوز معطلة تحت رحمة الإدارة القانونية
أما في مصر اليوم، تلك البلاد التي تحتضن خزائن من الثروات المعدنية الهائلة، فإن الإدارة القانونية بوزارة البترول تبدو على النقيض تمامًا، حيث تحولت إلى عائق يحول دون استغلال هذه الكنوز، مخلفة وراءها سلسلة من الإخفاقات التي كلفت البلاد أثمانًا باهظة.
شاهد أيضا:
رسالة إلى وزير البترول… عدل يبحث عن موطئ قدم
كما أن الإدارة القانونية، التي يفترض أن تكون العقل المدبر لصياغة الاتفاقيات القانونية وتنظيم العلاقات مع المستثمرين، فشلت في تقديم الأداء المطلوب، فالتشريعات المتهالكة، والقرارات البيروقراطية، والتأخر في حسم النزاعات، حيث أصبحت السمات البارزة لعمل هذه الإدارة.
إدارة كنوز مصر
كما أن الأمثلة على ذلك كثيرة، أبرزها تسليم ملفات معقدة تتعلق بالاستثمار والتعدين إلى كوادر قانونية تفتقر إلى الفهم العميق للتخصصات الفنية والاقتصادية، كيف يمكن لإدارة قانونية، بلا دراية بتعقيدات التعدين وتقنيات الاستكشاف والاستخراج، أن تدير كنوز مصر بشكل مثالي؟
إشكالية التعيينات وضبابية الرؤية القانونية
وفقًا للمتعارف عليه في قطاع التعدين عالميًا، يتم اختيار القيادات العليا من ذوي الخلفيات الاقتصادية أو الجيولوجية أو هندسة التعدين، وهي تخصصات تمكن أصحابها من فهم ديناميكيات السوق، وطبيعة الثروات المعدنية، وأساليب استخراجها، وأسواق تصريفها، وبناء نماذج أعمال فعّالة.
القوانين الدولية والاتفاقيات الاستثمارية
وفي المقابل، لم يكن نهج الاعتماد على كفاءات قانونية بحتة في صدارة الهيئة هو الاختيار الأمثل، إذ افتقرت هذه الإدارة القانونية لسنوات إلى الخبرة التفاوضية المتعمقة والكفاءة في القوانين الدولية والاتفاقيات الاستثمارية المعقدة، فضلاً عن ضعف المهارات العملية في إدارة الأزمات المرتبطة بعقود الامتياز والتحكيم الدولي.
الإدارة القانونية بين الأداء الشكلي والتعطيل العملي
بخلاف الدور المحوري الذي يفترض أن تلعبه الإدارة القانونية، تحولت في الكثير من الأحيان إلى عنصر تعطيل، ما ألقى بظلال سلبية على المشهد الاستثماري العام للقطاع.
مشروع تنتاليوم
وعلى سبيل المثال، فشلت مفاوضات مشروع “تنتاليوم” بشكل ذريع، لتربح الشركة الأجنبية في التحكيم الدولي على حساب حقوق الدولة المصرية، هذا الإخفاق يأتي بمثابة إنذار مبكر على عدم قدرة الإدارة القانونية على التعامل المحترف مع المستثمرين الأجانب، وعدم الجاهزية الكافية في صياغة بنود مُحكمة للعقود التي تضمن حقوق الدولة.
منجم فحم المغارة
كما لم يقتصر الأمر على مشروع “تنتاليوم”، إذ تعثر مصير منجم فحم المغارة لسنوات طويلة دون الوصول إلى حل نهائي، سواء بإتمام التصفية أو استئناف العمل، مما أسهم في إهدار فرص تنموية حقيقية، هذا الجمود القانوني والتنفيذي تسبب في خسائر مالية ضخمة، وحال دون استغلال الثروات الطبيعية الاستراتيجية.
تأخر توقيع العقود وتقويض الثقة الدولية
إن أحد أبرز مظاهر القصور القانوني يتمثل في تأخر توقيع عقود الاستغلال مع الشركات العالمية المتخصصة، فشركتا “باريك” و”سنتامين” على سبيل المثال، انتظرتا شهورًا طويلة لاستكمال الإجراءات، فيما كان بإمكان سرعة البت في المسائل القانونية أن يحقق انطلاقة سريعة للمشروعات ويضمن استغلال الفرص الذهبية المتاحة، ولم يتم تسوية تلك الأوضاع إلا بعد تدخل حاسم من الوزير المهندس كريم بدوي، الذي هرع إلى لندن لإنقاذ الموقف وإنهاء حالة التعطيل.
منجم الفواخير: ضياع فرص وإهدار حقوق
كما يأتي منجم الفواخير بالصحراء الشرقية ليضيف حلقة جديدة من حلقات الإخفاق، فبدلاً من دعم الشركة القائمة بالأعمال لاستكمال الكشف التجاري للذهب، تم فسخ الاتفاقية دون دراسة قانونية متأنية، مما أسفر عن توقف الأعمال تمامًا، وإتاحة الفرصة لانتشار سرقات الذهب من قبل جهات غير شرعية (الدهابة).
التحكيم الدولي
كما باتت الدولة عرضة للمقاضاة الدولية من قبل الشركة الأجنبية التي أزيحت من المشهد، حيث قد تلجأ إلى التحكيم الدولي مطالبة بالتعويض، وهو سيناريو سيكلف خزينة الدولة المزيد من الخسائر المالية والمعنوية.
تعطيل اجتماعات مجالس الإدارة والجمعيات العمومية
لم تتوقف الإخفاقات عند حدود التفاوض أو صياغة العقود، بل شملت أيضًا التأخر في عقد اجتماعات مجلس إدارة هيئة الثروة المعدنية، لعدّة أشهر، مما عرقل اتخاذ قرارات إستراتيجية مهمّة تتعلق بمصير استثمارات واعدة، وكذلك تعطّل انعقاد الجمعية العمومية لشركة “أبو مروات” لمناجم الذهب، وهو ما أسهم في خسارة العديد من الفرص الاستثمارية، وفي فقدان الثقة لدى المستثمرين الراغبين في الاستقرار التنظيمي والإجرائي.
قضية حديد بهجت: خسائر تاريخية وفشل قانوني ذريع
كما لا يمكن إغفال الهزيمة القاسية التي مُنيت بها هيئة الثروة المعدنية في قضية “حديد بهجت” الشهيرة، فلقد خسرت مصر فيها أمام هيئة التحكيم الدولي، مما أدى إلى إهدار حقوق الدولة وإلزامها بدفع تعويضات للمستثمر إلى جانب منحه المنجم، وكل ذلك يعكس مستوى الضعف القانوني والروتين المفرط وعدم تبصر الإدارة القانونية بالعواقب، هذه القضية شكلت درسًا قاسيًا يثبت أن غياب الحرفية القانونية والإدارة الحكيمة للملفات الاستراتيجية يكلف الدولة ثمنًا باهظًا من سمعتها وأموالها.
التغييرات المفاجئة في مناصب قيادية
لا يقف الأمر عند الإخفاق القانوني، بل يتجاوزه إلى تغييرات إدارية مفاجئة، مثل إزاحة رئيس الإدارة المركزية للمناجم والمحاجر ونقله إلى منصب رئيس مجلس إدارة شركة صغيرة دون صدور قرار وزاري واضح، هذه الخطوة تطرح تساؤلات حول معايير التغيير، وتبعث برسالة سلبية للمستثمرين والمتابعين بأن ثمة حالة من الاضطراب المؤسسي وعدم الاستقرار.
رؤية جديدة: هل يمكن إصلاح المسار؟
إن ما يحتاجه قطاع التعدين المصري اليوم ليس مجرد إصلاحات ترقيعية أو تعديلات شكلية، بل يتطلب قيادة واعية تمتلك رؤية اقتصادية وجيولوجية شاملة، تدرك إمكانات الموارد المعدنية، وتفهم بدقة آليات الأسواق العالمية والاستثمارات الأجنبية.
كنوز معطلة تحت رحمة الإدارة القانونية
كما تحتاج الهيئة إلى إدارة قانونية محنكة ومتخصصة، قادرة على التفاوض ووضع بنود تضمن حقوق الدولة وتستقطب المستثمرين في آن واحد.
مكامن الثراء وإدارة الموارد
كما إن القضية ليست مجرد قصور قانوني أو إخفاق إداري، بل هي افتقار لرؤية شمولية قادرة على فهم مكامن الثراء وإدارة الموارد بحكمة.
صياغة هيكل القيادة
لقد آن الأوان لكي تعاد صياغة هيكل القيادة وتوجهاته، فتتولى الأمر شخصيات متمرسة في فهم أعماق الأرض، واقتصاديون قادرون على نسج خيوط استثمارية واعدة، ومهندسون يدركون معايير الجودة والإنتاج، ويصبح دور الإدارة القانونية مكملًا وداعمًا، لا عائقًا ومانعًا.
طرلايق الإصلاح
وفي النهاية، إن طريق الإصلاح ليس ترفًا، بل ضرورة ملحّة، فالأخطاء التي دفعنا ثمنها غاليًا، والملايين التي أهدرت على مر السنين، يجب أن تصبح دروسًا قاسية تحرك ضمير المسؤولين نحو إصلاح جذري، حينها فقط يمكن أن تتحرر ثروات مصر المعدنية من قيود العجز القانوني، وتسمو أجنحة استثماراتها عاليًا، نحو مستقبل مزدهر تستحقه هذه الأرض التي لم تبخل بخيراتها، لكنا بخلنا عليها بحسن الإدارة والنفاذ القانوني والفكري.