في ضعفها .. أقوى الأمهات

في ضعفها .. أقوى الأمهات

هالة الدسوقي

لا أنسى تلك المرأة مطلقا فهي تتردد بشكل دائم على ذاكرتي، رغم أني لم أرها سوى مرتين فقط .. وجهها الأبيض الذي لا يعكس كثير من التعبيرات فهو في وضع ساكن وهادئ، جسدها النحيف الذي يتحمل ربما أكثر من طاقتها، وصحبتها لابنتها – وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة -وتعاملها معها بلطف وحنان ورفق قد يفتقره كثير من الأمهات..لا أعلم اسمها ولا اسم طفلتها ولم أحط بظروفها خبرا.. كل ما علمته

عنها أنها أم من الزمن الجميل.

راقبتها باهتمام، أثناء وجودي في مركز متخصص لاجراء عمليات الأسنان للأطفال، وكما اصطحبت طفلي الذي يحتاج لعملية اصطحبت هي طفلتها، لفت نظري أنها كانت بمفردها مع طفلتها، تراقبها وتلبي رغباتها دونما أن تتحدث تلك الطفلة، فتعطيها الطعام وتنتهي منه وتمسح لها فمها وتعطيها الماء، غير متبرمة ولا ضجرة مما قد يصدر من الطفلة من أخطاء تحتمها عليها طبيعة حالتها، فهي تعمل ما تستطيع عن طيب خاطر ومحبة وعشق كبيرين…انتهت هذه السيدة من تشخيص حالة ابنتها وانصرفت سريعا، وكانت تلك المرة الأولى التي رأيتها فيها.

 

أما لقائي الثاني بها فكان في المستشفى وهو يوم إجراء العملية، وكل الحاضرين قد اصحبوا معهم شخص أو اثنين من الأقارب، إلا تلك السيدة فقد حضرت بصحبة طفلتها فقط، وكانت طفلتها أول من أجرت العملية بين الأطفال، تحلت أمها بالشجاعة والصمت، وقفت بجوار طفلتها تمسح عن فمها الدم تنتظر تعليمات الأطباء ، وعندما وصف لها الأطباء الأدوية المطلوبة أسرعت لإحضارها تاركة خلفها تلك الطفلة الصغيرة، وتساءل الحاضرون لما هي وحدها ؟؟ نراها وحدها لكني وجدتها أقوى من الحاضرين جميعا.

 

وفي لحظات ظهرت تلك المرأة وقد عادت لطفلتها مسرعة، واستمرت في عنايتها ورعايتها في صمت وصبر يتحدثان كل لغات الرفق واللين والعطف المجتمعة في العالم كله، طفلتها لا تقوى على شيء، لكن هي رغم بساطتها وطيبتها الظاهرة في شكلها وتصرفاتها أقوى الأمهات التي صادفتها في حياتي…. ولو بيدي لتوجتها على عرش الأمهات.

 

ولعلي اتذكر تلك السيدة عندما أرى أحد الأمهات وقد انشغلت عن طفلها الذي يحاول ويحاول مرارا وتكرارا أن يحدثها دونما فائدة، وهي قد انشغلت عنه بتليفونها غير عابئة بتوسلاته أو طلباته، وأحيانا ترد بنهيه عن كلامها وتأمره بالصمت أو لا تعيره اهتماما من الأساس، أو قد تعطيه تليفونا آخر ليسلك مسلكها ويعيش كلا منهما في عالمه الخاص،  تلك الأم  لم يخطر على بالها أن طفلها يشعر بالوحدة رغم قربه منها،  إنه لا يحتاج للإلهاء بل يحتاجها هي..

[email protected]

hala El Desouki

"هالة الدسوقي .. صحفية ورسامة الكاريكاتير.. خريجه كلية الإعلام جامعة القاهره.. وخبره ٢٠ عاما في العمل الصحفي.. عملت في أكثر من موقع منها موقع محيط وعشرينات وجريدة المصريون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى